كبسولة الصحية – لندن
في خطوة وصفت بأنها نقطة تحول مفصلية في مسار الرعاية الصحية، أعلن فريق بحثي دولي من جامعتي وُروِك ونيويورك عن تطوير نموذج ذكاء اصطناعي جديد يُدعى “دلفي-2 إم (Delphi-2M)”، يتمتع بقدرة استثنائية على التنبؤ بأكثر من ألف مرض يمكن أن يُصاب بها الإنسان خلال العقود المقبلة، مع تحديد المرض التالي المحتمل وموعد ظهوره على مدى زمني يمتد إلى 20 عاماً.
وقد نُشرت نتائج هذا الابتكار في مجلة “نيتشر ميديسن”، حيث يعيد النموذج تعريف الطب الوقائي بنقله من مرحلة التدخل العلاجي المتأخر إلى مرحلة الوقاية الاستباقية، مما يتيح للأطباء التدخل لإنقاذ حياة الملايين قبل ظهور المرض بسنوات.
كيف يعمل عقل “دلفي-2 إم”؟
يكمن سر قوة النموذج في بنيته الخوارزمية المتطورة، المعتمدة على شبكة المحوّل (Transformer Network)، وهي التقنية نفسها التي تعتمد عليها النماذج اللغوية العملاقة مثل “تشات جي بي تي”. لكن بدلاً من تحليل الكلمات، تم تعديل هذه البنية لتقوم بـ “قراءة” الخط الزمني الصحي الكامل للفرد، وتحليل تسلسل الأمراض والظروف الصحية على مرّ السنين (بما في ذلك مؤشر كتلة الجسم، والتدخين، والتاريخ المرضي).
تم تدريب النموذج على بيانات أكثر من 400 ألف شخص من “المصرف الحيوي البريطاني”، وحقق دقة نظرية بلغت نحو 70% في التنبؤ عبر مختلف فئات الأمراض. ويتفوق “دلفي-2 إم” على الأدوات الإحصائية التقليدية بقدرته على اكتشاف أنماط معقدة والترابط بين أمراض تبدو بعيدة عن بعضها.
ابتكار مفتوح وتحديات أخلاقية
من أبرز مميزات هذا الابتكار أنه صُمم ليكون مفتوح المصدر (Open Source) وقابلاً للنشر باستخدام البيانات التركيبية (Synthetic Data)، التي تحاكي خصائص البيانات الحقيقية دون تعريض خصوصية المرضى للخطر. وهذا يتيح للمستشفيات والجامعات حول العالم، بما في ذلك في الدول النامية، استخدامه وتطويره بتكلفة منخفضة.
ومع هذه الوعود الكبيرة، يطرح النموذج أسئلة أخلاقية صعبة تتعلق بمستقبل الطب:
التمثيل السكاني: هل ستنطبق دقة التنبؤ على السكان غير الأوروبيين، مثل المجتمعات العربية أو الآسيوية، بما أن التدريب اعتمد على بيانات أوروبية؟
الخصوصية والعبء النفسي: مَن الذي يحق له الاطلاع على هذه التنبؤات؟ وكيف نضمن ألا تُستخدَم هذه المعرفة ضد المريض في مجالات مثل التأمين أو التوظيف؟ وهل الإنسان مستعد نفسياً لمعرفة مستقبله الصحي المفصل؟
يؤكد الباحثون أن “دلفي-2 إم” ليس بديلاً للقرار الطبي الإكلينيكي بعد، لكنه يمثل تحولاً جذرياً؛ إذ إن الذكاء الاصطناعي لا يفرض مصيراً، بل يرسم احتمالات، ويضع قرار التغيير في يد الإنسان اليوم.