القاهرة – محمد مطاوع
تو يويو (Tu Youyou)، اسم يتردد صداه في أروقة الطب والكيمياء الدوائية؛ فهي عالمة صينية فذة، وُلدت في 30 ديسمبر 1930 بمدينة نينغبو في مقاطعة تشيجيانغ، مسيرتها العلمية سجل حافل بالإنجازات المضيئة؛ إذ لم تكتفِ بحصد جائزة نوبل في الطب عام 2015 ، بالاشتراك مع البروفيسور الياباني ساتوشي أومورا والإيرلندي وليام كامبل، بل نالت قبلها جوائز رفيعة المستوى، مثل جائزة لاسكر-دبغي للأبحاث الطبية السريرية وجائزة مؤسسة وارن ألبرت. هذا السجل يرسخ مكانتها في تاريخ العلوم كصاحبة بصمة لا تُمحى.
على صعيد متصل، يمر علاج السمنة وداء السكري حالياً بتحول غير مسبوق، مدفوعاً بظهور جيل متقدم من الأدوية التي تحاكي ببراعة عمل الهرمونات المعوية الطبيعية. هذا النجاح الباهر ليس وليد اللحظة، بل هو ثمرة تتويج لمسيرة بحثية مضنية انطلقت منذ عقود على يد مجموعة من العلماء الذين أرسوا الأساس لما يُعرف اليوم بـ “النواقل الهرمونية الذكية”.
جوهر الإنجاز والطب التقليدي
يكمن الإنجاز الأعظم للدكتورة تو يويو في نجاحها الباهر في عزل وتطوير مادة الأرتيميسينين المستخلصة من نبات الشيح الحلو (Artemisia annua). وتتضح القيمة الاستثنائية لهذا الكشف من خلال محطات محورية:
السياق التاريخي للأزمة: شهدت حقبة الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي تدهوراً صحياً كارثياً نتيجة المقاومة المتزايدة التي أبدتها سلالات طفيل الملاريا للعلاجات الكلاسيكية كالكلوروكين، الأمر الذي أدى إلى تصاعد مريع في معدلات الوفيات.
العمق المنهجي: قدم الأرتيميسينين آلية دوائية فريدة وغير مسبوقة، تستهدف الطفيل بفعالية فائقة في أدق مراحله الحياتية داخل الجسم البشري.
الإرث الإنساني: تصف المؤسسات الصحية الدولية الأرتيميسينين ومشتقاته بأنه خط الدفاع الأول والأقوى في خطط العلاج العالمية. لقد أسهم هذا العقار بإنقاذ حياة ملايين البشر الذين فتكت بهم الملاريا في القارتين الآسيوية والأفريقية.
السجل التاريخي وحكمة الأقدمين
انبثق هذا الكشف ضمن مشروع حكومي صيني شديد السرية، تم تدشينه في عام 1967 تحت اسم “المشروع 523”. واجهت تو يويو وفريقها تحديات جمة إبان الثورة الثقافية، حيث اضطروا للعمل في ظروف بالغة الصعوبة وعزلة تامة عن التيارات البحثية العالمية.
لحظة اليقظة: في عام 1971، تمكنت تو يويو من عزل المادة الفعالة بعد استلهام حاسم من مخطوطات الطب الصيني القديم التي تعود إلى 1700 عام، والتي أشارت إلى الاستخدام التقليدي لهذه النبتة في علاج الحميات.
انتصار المنهجية: كان مفتاح هذا النجاح يكمن في فك شفرة طريقة الاستخلاص الصحيحة. فقد أدركت تو يويو ببصيرة لافتة أن الإجراءات التقليدية للغلي كانت تقضي على المكون الفعّال. لذا، استدلت على ضرورة استخدام الاستخلاص البارد بدرجة حرارة منخفضة، مما ضمن سلامة المادة العلاجية والحفاظ على تأثيرها.
توثيق إنساني.. قصة تضحية في سبيل الإغاثة
تكتمل صورة الدكتورة تو يويو ببعد إنساني عميق يجسد أسمى معاني التفاني؛ فقد آثرت العمل المضني المتواصل، مفارقة ابنتها الرضيعة التي أودعتها إحدى دور الرعاية، إذ كان هاجسها الأوحد هو تسريع وتيرة البحث لإيجاد طوق النجاة لضحايا الملاريا المتزايدين.
تُعرف الدكتورة تو يويو بتواضعها الجم وتفانيها الراسخ في خدمة العلم. وعندما حظيت بالتكريم الأسمى لجائزة نوبل، أكدت أن هذا الإنجاز يعود للجميع، وأن العائد الأسمى لها هو شهادة التعافي التي ارتسمت على وجوه المرضى.
إن مسيرتها العلمية تعد وثيقة ساطعة على عظمة إحياء المعارف الضاربة في القدم، وذلك بدمجها مع ضوابط المنهج العلمي الحديث، وتأكيداً راسخاً على أن الإبداع الحقيقي لا يحتاج بالضرورة إلى فخامة المختبرات ليُغير وجه البشرية.